متلازمة اللكنة الأجنبية: عندما تستيقظ لتجد نفسك تتحدث بلكنة لم تتعلمها

متلازمة اللكنة الأجنبية: عندما تستيقظ لتجد نفسك تتحدث بلكنة لم تتعلمها

تخيل أن تستيقظ يومًا ما لتجد صوتك مختلفًا تمامًا، تتحدث العربية لكن بلكنة فرنسية أو إنجليزية أو حتى صينية! لا سفر، لا دروس لغات، ولا تجربة سابقة… فقط استيقاظ عادي انتهى ببداية قصة غريبة. هذا السيناريو الذي يبدو وكأنه من فيلم خيالي هو في الحقيقة حالة طبية حقيقية تُسمى **متلازمة اللكنة الأجنبية** (Foreign Accent Syndrome – FAS). 



 ما هي متلازمة اللكنة الأجنبية؟

 هي حالة نادرة جدًا تجعل الشخص يتحدث بلكنة مختلفة تمامًا عن لهجته الأصلية، واللافت أن المتحدث نفسه لا يكون واعيًا بكل التفاصيل الدقيقة التي تغيّرت في صوته. الناس من حوله هم من يلاحظون ذلك أولًا: طريقة نطق الحروف، أو إطالة بعض الكلمات، أو حتى الإيقاع الموسيقي للجملة. الغريب أن المصاب لا يتعلم لغة جديدة ولا يكتسب قاموسًا أجنبيًا؛ التغيير يحدث فقط في **النغمة وطريقة النطق**. لذلك يسمعها الناس وكأنها لكنة أجنبية، لكنها في الحقيقة مجرد إعادة ترتيب لموسيقى الكلام.

 كيف تحدث هذه الظاهرة؟

 الأطباء يربطونها غالبًا بخلل في الدماغ، وخصوصًا في المناطق المسؤولة عن النطق. الأسباب قد تكون: * **جلطة دماغية** تترك أثرًا في مراكز اللغة. * **إصابة دماغية** بسبب حادث أو سقوط. * **أمراض عصبية** مثل التصلب المتعدد أو الأورام. * **عوامل نفسية**، حيث وُجد أن الضغط النفسي أو الصدمات قد يثيرها في بعض الحالات. لتبسيط الصورة: تخيّل أن دماغك هو قائد الأوركسترا، وكل عضلة من عضلات اللسان والفك هي آلة موسيقية. عندما يصاب القائد بخلل في التوجيه، تبدأ الموسيقى في الخروج بإيقاع جديد… يختلف عما اعتدت علية

 قصص حقيقية تُشبه الأفلام

 سيدة بلكنة سويدية! إحدى السيدات البريطانيات أصيبت بأزمة قلبية، وبعد فترة قصيرة بدأ صوتها يتغيّر تدريجيًا. فجأة لاحظت عائلتها وأصدقاؤها أن طريقتها في الكلام تشبه السويديين! لم يصدقها الكثيرون، واعتقدوا أنها تحاول تقليد لهجة أجنبية بدافع المزاح، لكنها في الحقيقة كانت ضحية لمتلازمة اللكنة الأجنبية. 

أسترالية بلكنة بريطانية امرأة أسترالية خضعت لعملية جراحية في الفك، وبعد التعافي وجدت نفسها تتحدث وكأنها بريطانية أصيلة! بالرغم من أنها لم تزر بريطانيا يومًا، إلا أن نطقها أصبح يحتوي على لمسات من لندن وكامبريدج. كان الأمر مربكًا لها ولمن حولها، لكنها قررت أن تتعامل مع الموقف بروح الدعابة، فصارت تقول مازحة: *“لقد كسبت تذكرة سفر دائمة دون أن أخرج من غرفتي.”
 كيف يراها الناس من حول المصاب؟ لو تخيلنا الموقف في حياتنا اليومية، فهو أشبه بمشهد اجتماعي محرج. تخيّل أن أحد أصدقائك عاد من المستشفى فجأة بلكنة فرنسية وهو لا يعرف كلمة واحدة بالفرنسية! قد تظن أنه يمزح أو يقلد، وربما تتهمه بالتصنّع. لكن مع مرور الوقت تكتشف أن هذه اللكنة أصبحت جزءًا من صوته الحقيقي. المصاب نفسه غالبًا يشعر بالارتباك: 
 * البعض يدخل في حالة حزن لأنه يشعر أنه فقد جزءًا من هويته. * آخرون يحاولون التعامل مع الأمر بروح مرحة ليخففوا من وطأته. 
* وهناك من يعانون من عزلة اجتماعية لأن المحيطين بهم لا يتقبلون الفكرة بسهولة. 
 لماذا تُعتبر هذه الحالة مختلفة عن باقي اضطرابات الكلام؟ قد يخلط البعض بين متلازمة اللكنة الأجنبية وبين مشاكل النطق الأخرى مثل التلعثم أو صعوبة الكلام بعد الجلطات. لكن الفارق أن اللكنة الجديدة **تبدو طبيعية تمامًا** لمن يسمعها. أي أنها ليست مجرد بطء أو ثقل في اللسان، بل تحوّل كامل في طريقة إخراج الأصوات. الأطباء عادةً ما يجرون اختبارات دقيقة تشمل: 
 * تصوير بالرنين المغناطيسي لمناطق الدماغ. 
* تقييم من اختصاصي التخاطب. 
* أحيانًا تقييم نفسي للتأكد إن كانت الحالة مرتبطة بصدمات أو ضغوط. 

هل هناك علاج؟

 العلاج ليس سهلًا ولا سريعًا، لأننا نتحدث عن الدماغ، أكثر جهاز معقّد في الجسم. لكن هناك خطوات تساعد: 
جلسات التخاطب: لتدريب المريض على استعادة نغمة صوته الأصلية. 
العلاج النفسي: لمساعدة المريض على التعايش مع الموقف وتخفيف القلق المرتبط به. 
علاج السبب الأصلي: مثل السيطرة على التصلب المتعدد أو إعادة التأهيل بعد الجلطات. في بعض الحالات تعود اللكنة تدريجيًا، وفي حالات أخرى تبقى ملازمة للشخص لسنوات. 

 ماذا نتعلم من هذه الظاهرة؟ 

 متلازمة اللكنة الأجنبية ليست مجرد قصة طريفة نرويها على المقهى، بل هي تذكير حيّ بمدى 
تعقيد الدماغ البشري. هذا العضو الذي يزن حوالي كيلو ونصف فقط قادر على إنتاج ملايين الأصوات والإيقاعات بشكل متناغم، وأي خلل صغير فيه قد يغيّر هويتنا الصوتية بالكامل. كما تكشف لنا هذه الظاهرة جانبًا إنسانيًا عميقًا: * كيف يمكن لصوت الإنسان أن يكون جزءًا من هويته وشخصيته؟ * ماذا لو استيقظنا في يوم لنجد صوتنا مختلفًا؟ * كيف سنقنع الناس أن ما حدث ليس لعبة أو خدعة؟ 
بين الخيال والواقع كثير من الأفلام والمسلسلات استخدمت فكرة تغيّر اللهجة كعنصر كوميدي أو درامي. لكن الحقيقة أن وراء كل حالة واقعية معاناة نفسية واجتماعية قد لا نراها من الخارج. الاختلاف في الصوت قد يجعل المريض يشعر وكأنه غريب في وطنه أو حتى غريب أمام عائلته. لذلك يحتاج هؤلاء إلى قدر كبير من التعاطف، لا إلى السخرية أو التشكيك. 
كلمة أخيرة متلازمة اللكنة الأجنبية قد تبدو نادرة جدًا (أقل من ١٠٠ حالة موثقة عالميًا)، لكنها تفتح بابًا واسعًا لفهم العلاقة بين الدماغ واللغة والهوية. إنها رسالة لنا جميعًا بأن أصواتنا ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل جزء من ذواتنا. في النهاية، لو صادفت يومًا شخصًا تغيرت لكنته فجأة، لا تتسرع في الضحك أو الاتهام. ربما هو يعيش تجربة أكبر بكثير مما نتخيل، تجربة تجعله يستيقظ كل صباح ويسأل نفسه: من أنا بصوتي الجديد؟"* 
 

Comments